الجمعة، مايو 20، 2011

ثورة اليمن: استبدال علي عبد الله صالح أم استبدال مؤسسات مفوّتة؟

يوميات الثورة اليمنية/المركز العربي للأبحاث ودرسات السياسية
د. هشام القروي
عندما اندلعت أحداث اليمن، ظهر أنها تتبع النموذج الاحتجاجي نفسه الذي بدأ في تونس على شكل مطالب اجتماعية قبل أن يتحول إلى مسار سياسي جراء انضمام أحزاب المعارضة إلى التمرد العفوي للشباب، وظهور برنامج تغيير ديمقراطي. لكن الوضع في اليمن مختلف قليلاً. فعلي عبد الله صالح، على الرغم من أن قلة شكّكت في الأغلبية الانتخابية التي نالها في سنة 2006، قرر أن يتبع نهج جميع الديكتاتوريين، ويُدخل على قوانين البلاد، وربما على دستورها، تنقيحات تمكّنه من السّيطرة على السلطة مع أنها تخلّ بالتوازنات، ثم توريثها ابنه. وهذا ما جعل أحزاب المعارضة تقف في وجهه وتتحالف مع الشباب اليمني مشكِّلة حركة تطالب الرئيس بالرّحيل منذ اليوم الأوّل للثورة. والمسألة التي تعالجها هذه الورقة تتعلق بأبعاد الأزمة التي أدّت إلى الثورة وتصور البدائل الممكنة: هل سيكون البديل ديمقراطياً، أم عسكرياً، أم قبلياً أم ذلك كله معاً، أم شيئاً مختلفاً؟ [1] وبعبارة أخرى: هل يبحث اليمن عن استبدال أشخاص أم استبدال مؤسسات؟ 
مقدمة
يمثّل اليمن حالة فريدة في مشهد الثورة العربية في هذه الأيام. فنحن أمام مطالب تدعو إلى سقوط نظام يرفعها بعض الذين كانوا إلى وقت قريب سنده الأساس. وليست هذه إلا ثاني المفارقات. فالمفارقة الأولى أننا نتحدث عن "ديمقراطية قبلية"، وهو شكل من الحكم غريب عن الديمقراطية الحديثة وعن القبلية التقليدية معاً. فالرئيس اليمني منتخب ويمثل أغلبية منذ سنة 2006 بشكل لم يتوافر للرئيسيْن السابقين زين العابدين بن علي وحسني مبارك المتهميْن بالتزوير على نطاق واسع. وإذا كانت إزاحة علي عبد الله صالح عن الحكم تنهي موضوع النّزاع، وتضع اليمن على الدرب الديمقراطي، فهذا يعني أن حلّ المشكلة سهل. ولكن الديمقراطية لا تعني القدرة على استبدال الحاكم فحسب، وإنما هي، قبل أيّ شيء، نظام يقوم على احترام بعض القواعد الأساسية ومنها أن لا أحد فوق القانون. والنظام اليمني الذي قاده علي عبد الله صالح منذ سنة 1990 قام على اتفاق لتقاسم السلطة بين الرئيس والقبائل المتحالفة معه والجيش. وهذا ليس هو الفهم العقلاني للديمقراطية الحديثة. وإذا كانت أهداف الثورة الحالية مجرد إسقاط شخص وإحلال آخر في مكانه مع الاستمرار في الحكم على الأسس نفسها، فلن يختلف الأمر كثيراً بعد رحيل علي عبد الله صالح.
ولنبدأ في تحديد بعض القضايا التي يفترض أن تحظى باهتمام القوى السياسية خـلال الثورة وبعد نهاية حكم علي عبد الله صالح. هناك في رأينا نوعان من المشكلات: سياسية- سوسيولوجية، واجتماعية- اقتصادية. ويبدو الثاني أكثر استعجالاً وإثارة للاهتمام، فهو يتعلق بما يلي: نموّ البطالة والنمو الديمغرافي الانفجاري مع وجود 42 في المئة من السكان يعيشون بأقلّ من دولارين يومياً، وعدم العدالة في توزيع الموارد المائية، ومعاناة اجتماعية خاصة للنّساء والأطفال المفتقرين إلى الموارد،[2] وهذه جميعا أسباب دافعة إلى الغضب والانفجار.
أمّا النوع الأوّل من المشكلات، فله تعقيدات تمتدّ إلى التشكيلة الاجتماعية في اليمن. وهذا الأمر له علاقة بالمسائل التالية: الولاءات؛ هل هي للقبيلة والعشيرة أم للجمهورية؟ الافتقار إلى الشفافية في التعيينات والمناصب الأمر الذي يؤدّي إلى تهميش بعض الفئات الاجتماعية؛ الافتقار إلى الشّفافية في المؤسّسات وعدم محاسبة المسؤولين ما يؤدّي إلى الفساد؛ وبشكل عام وأخطر، فإنّ الافتقار إلى المعايير التحديثية في بناء الدولة الديمقراطية العصرية، يتبعه ازدياد نفوذ الجيش والقبائل.
وسنركّز في هذه الورقة على المسألة الأولى، أي السوسيولوجيا السياسية لليمن، وهي ذات علاقة بقضية التحديث في الشّرق الأوسط التي عالجها بعض الكتّاب. ويندرج مجهودنا الخاصّ في السياق النظري نفسه الذي عالجه برهان غليون[3] وعزمي بشارة[4] وحليم بركات[5] وخلدون حسن النقيب[6] وهشام شرابي وسعد الدين إبراهيم، وجميع الذين تصدّوا لمسألة الحداثة والتحديث والنظام الاجتماعي في العالم العربي، وكذلك ديفيد أبتر،[7] وفريمان،[8] وديل ايكلمان،[9] وكارل براون،[10] والمدرسة الوظيفية في علم الاجتماع.[11] ونحن بدورنا ننطلق من فكرة أن الفهم القاصر لدور القبيلة في المجتمعات العربية أدّى إلى استنتاجات غير معقولة وغير مقبولة، منها مثلاً القول:"لما كانت كل قبيلة (وهي نفسها تنقسم إلى أفخاذ ومنازل) تمثل وحدة مستقلة، لا بد من تصور الجزيرة العربية قبلياً على أنها اعتيادياً في حال فوضى".[12] وفي فترة أحدث، نرى بعض الأنثروبولوجيين والمؤرخين يناقشون قضية القبائل إما بصفة كونها "مؤسسة دول" أو "قوى مناهضة لمركزية الدولة"، أو هي "كتل تساهم في بناء الانسجام الاجتماعي والسياسي على المستوى المحلي".[13] ومحصلة ذلك، كما يشير خلدون النقيب، هي "ظهور التنظيمات القبلية على أنها الحقيقة الراسخة الساطعة، ومن ثم ظهور كل ما عداها في ضوء باهت يغلف البنى الاجتماعية والاقتصادية التي تفتقر إلى الجذور التاريخية الواضحة".[14]
ولا يغيب عن أحد أنّ "الأنظمة لا تعتمد على الظواهر الاجتماعية التجريدية عندما تواجه مواضيع دقيقة مثل إخضاع العسكريين،"[15] فكل منها يطوّر طريقته الخاصة في السيطرة، والتي بفضلها يحاول أن يحمي نفسه من الضبّاط ذوي الطموحات السياسية. و"تختلف هذه الطرق طبقا لمستوى التطور السياسي الذي بلغه أي نظام، فنرى بعضها يشمل الاعتماد على القبائل، أو الطوائف، أو حتى المرتزقة، ويعتمد بعضها على استراتيجيات التلاعب ذات الجذور الممتدة إلى الوصائية الأبوية، فيما تلجأ أنظمة أخرى إلى المؤسسات. ونجد بعض الحكومات تستعمل أكثر من طريقة واحدة..." [16] بحسب حاجتها. ولا شك في أنّ إنجاح مشروع الديمقراطية في بلد كاليمن يتطلب جهداً خاصاً من النّخب لتجاوز العقبة القبلية والنعرات العصبية القديمة، والمناورة بذكاء للحصول على الدعم الشعبي على أسس لا تغلق الباب أمام أحد، في حين تبقى النخب التي تقود التغيير منتبهة إلى ما هو فاعل حقاً في السياسة والمجتمع وما هو مفتعل.
دور أحزاب المعارضة في الانتفاضة اليمنية 
"
الرئيس صالح أصبح "في وضع أكثر عزلة، وأقل استجابة للنصيحة التي يسديها إليه أشخاص من الدائرة الخاصة المقربة. فهو "لا ينصت لأحد". ولا يزال "واثقاً بغباء غير واقعي" إنه سيتخذ دائما القرارات الصحيحة، حسب برقية للسفارة الأميركية، وتذكر اللهجة المستعملة في هذه البرقية إلى حد كبير ببرقيات مشابهة صادرة عن السفارة الأميركية في تونس، في حديثها المفصل عن فساد بن علي وعائلته وبطانته.
"
خلافاً لتونس ومصر حيث كانت الأحداث التي قادت إلى الثورة وسقوط رأس الحكم عفوية ومطالبها اجتماعية في البداية، فإن الثورة في اليمن كان محركها الأول سياسياً.[17] وقد أشارت إلى هذا الأمر عدة تحليلات [18] منها تقرير رُفع مؤخراً إلى الكونغرس الأميركي[19] يذِّكر القارئ بأن أحزاب المعارضة اليمنية، حتى قبل بدء الاضطرابات في البلدين، أظهرت غضباً شديداً بسبب خطط الرئيس علي عبد الله صالح لتعديل القانون الانتخابي، وتأليف لجنة عليا جديدة للانتخابات والاستفتاء، وربما تعديل الدستور حتى يسمح له بفرصة انتخابية أخرى، فضلاً عمّا يقال عن سعيه لتوريث ابنه السلطة. وقد سبّب ذلك كله ضيقاً كبيراً للمعارضة. [20] لكن، وعلى الرغم من أن احتجاجات المعارضة بدأت في 16 كانون الثاني/ يناير 2011 في اليمن (أي بعد يومين من سقوط بن علي في تونس) فإنها اكتسبت وزناً وشعبية بمرور الوقت، خاصة مع انضمام عناصر مهمة من النخبة السياسية والعسكرية إلى المتظاهرين، وحدوث المزيد من الانشقاقات والاستقالات شملت أعضاء بارزين من عائلة الرئيس وحلفائه، ولا سيما بعد أن ردّ النظام بطريقة وحشية على تظاهرات سلمية.
 وأصبح السؤال الذي يحتاج إلى إجابة عاجلة يدور حول الخلافة. وهي ليست مسألة جديدة في أي حال، إذ يمكن العثور على أمثلة من مسارات الحوار السياسي في اليمن والتقويم الأميركي للوضع في حالة وفاة الرئيس المفاجئة أو عزله أو ابتعاده عن الحكم في برقيات دبلوماسية صادرة عن السفارة الأميركية في صنعاء سنة 2005، ومنشورة على موقع ويكيليكس، في حين كان علي عبد الله صالح - مثل مبارك وبن علي - يُعتبر من حلفاء واشنطن. 
السفارة الأميركية في صنعاء والفساد
في سنة 2005، أسرّ بعض المسؤولين القريبين من علي عبد الله صالح إلى السفير الأميركي في صنعاء بأنهم يواجهون أحد أمرين: "إما الاستقالة أو التكاتف معا لإجبار الحكومة على مكافحة الفساد وإجراء إصلاحات".[21]
وتخبرنا البرقية عن كيفية تقويم محيط علي عبد الله صالح المباشر للرئيس فتقول: "الرئيس مهتم بإثراء عائلته أكثر من اتخاذ الخيارات الاستراتيجية اللازمة لقيادة اليمن في المستقبل". ويبدو من حديث بعض المسؤولين اليمنيين ذوي الاتصال المباشر بالسفارة الأميركية أن الرئيس صالح أصبح "في وضع أكثر عزلة، وأقل استجابة للنصيحة" التي يسديها إليه أشخاص من الدائرة الخاصة المقربة الذين تسمّيهم البرقية "البراغماتيون التقدميون". فهو "لا ينصت لأحد". ولا يزال "واثقاً بغباء غير واقعي" إنه سيتخذ دائما القرارات الصحيحة، بحسب ما باحت به المصادر نفسها للسفير. وتذكرنا اللهجة المستعملة في هذه البرقية إلى حد كبير ببرقيات مشابهة صادرة عن السفارة الأميركية في تونس، في حديثها المفصل عن فساد بن علي وعائلته وبطانته.
وتنقل البرقية نفسها اتهامات بالفساد وجّهت إلى علي عبد الله صالح وعائلته ومحيطه المباشر، ولم يفلت من تلك الاتهامات علي محسن الأحمر قائد المنطقة الشمالية، ولا عشيرة الراحل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر الذي كان رئيساً لمجلس النواب، وزعيماً لحزب التجمع اليمني للإصلاح، وزعيم قبائل حاشد قبل وفاته في عام 2007. وهذا كله كان يقال - وهو مسجل - قبل انتخابات 2006 التي كان علي عبد الله صالح أعلن أنه لن يخوضها، ثم غيّر رأيه. 
السفارة الأميركية في صنعاء والخلافة
البرقية الثانية الصادرة عن صنعاء[22] أكثر تحديداً وتفصيلاً في شأن خلافة علي عبد الله صالح. أولاً، إنها تؤكد أن "القوة الحقيقية ما زالت تُستمد من الجيش والقبائل، والرئيس المقبل سيكون نتيجة الاتفاق بين هذه الأطراف". ويبدو أن هذا الأمر لم يتغير منذ ذلك الوقت، حيث لا تزال الحال في 2011 على ما هي عليه، وما زلنا نسمع من الأخبار انضمام المزيد من القبائل إلى الثورة، الأمر الذي يوحي بأنها إما ثورة "قبلية" ضد الدولة، أو أن القبيلة في اليمن أكثر تأثيراً من المؤسسات والتنظيمات الحديثة.
 ثانياً، تنقل البرقية اعتقادا سائداً بأن رئيس اليمن المقبل سيأتي من الدائرة الداخلية للأسرة أو الحلفاء من العسكر. ها نحن قد رأينا في سنة 2011 أن أفراداً بارزين من عائلة الرئيس وعشيرته قد انشقّوا وأعلنوا التحاقهم بالمحتجّين في الشارع. وعلى هذا النحو، من المحتمل أن نجد من بينهم مرشّحا للرئاسة. 
 ثالثاً، أشارت البرقية إلى "عدم وجود تسلسل قيادي واضح في حالة موت الرئيس أو عجزه عن الاستمرار في المنصب"، وهو ما بدا للدبلوماسيين أمراً أكثر تعقيداً. ولكن مثل دول أخرى مرّت بهذا الوضع مؤخراً (تونس ومصر)، فإنّ النخبة اليمنية تعرف أنّ مرجعها لنقل السلطة في المرحلة الانتقالية سيكون الدستور الحالي، على الرغم من أي تحفظات عنه. وأي تنقيح أو تغيير كامل للدستور سيكون من مهمات السلطة المقبلة والاتفاق الشعبي.
 رابعاً، فسّرت البرقية حكم علي عبد الله صالح الطويل نسبياً (32 سنة) باعتماده حجر الزاوية المسمى "التحالف الثلاثي". وذكرت اسمي الطرفين اللذين كوّنا مع عبد الله صالح في سنة 1978 هذا الحلف القبلي والعسكري الذي قام على ترتيب "تقاسم السلطة" عقب اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي في 24 حزيران/يونيو 1978، وهما: اللواء علي محسن الأحمر، والشيخ عبد الله الأحمر. أمّا اليوم، في سنة 2011، فما عاد هذا التحالف قائماً بل نجد أنّ ابني عبد الله الأحمر، الشيخ الصادق والشيخ حميد، يقفان في صفوف المعارضة، ويدعمان احتجاجات ساحة التغيير المطالبة بتخلّي علي عبد الله صالح عن السلطة. حتى إنّ الشيخ حميد كان أحد الداعمين الرئيسين لمرشّح المعارضة الراحل فيصل بن شملان في انتخابات عام 2006. وفي صيف عام 2009 ظهر حميد على شاشة تلفزيون "الجزيرة" داعياً الرئيس صالح إلى التنحِّي عن الحكم.[23] و نجد أيضاً اللواء علي محسن الأحمر قد انشقّ عن النظام وانضمّ إلى المعارضين في ساحة التغيير. إلا أنّ من الضروري إضافة ملاحظة هي أنّ انهيار التحالف القبلي- العسكري القديم لا يعني أنّ هذا التحالف لن يبحث عن وسيلة أخرى أو عن شكل آخر للعودة بعد إزاحة علي صالح عن السلطة.
 خامساً، وفقا للبرقية نفسها هناك تقديرات بأنّ اللواء محسن يمتلك ما لا يقلّ عن50 في المئة من الأصول والموارد العسكرية، الأمر الذي يجعل منه "ثاني أقوى رجل في اليمن". ومع ذلك يجدر أن نتساءل: ما هي فرص محسن في السباق إلى خلافة علي عبد الله صالح؟ صحيح أنّ المعارضة رحّبت بانشقاقه وانضمامه إليها، واعتبرته دعماً كبيراً لصفوفها، ولكن ثمّة بين المتمرّدين الشيعة في الشمال مَن يعتبره ذلك القائد العسكري القاسي الذي قاد الحملة العسكرية ضدّهم في حرب أهلية دامية. أمّا اليساريون والجنوبيون فهم يشعرون بالقلق من أن يتم تجاوز أهداف الثورة الحالية نحو صراع على السلطة العسكرية، فيما تبدو المعارضة الإسلامية أكثر تجاوباً معه وترحيباً. وهو، علاوة على ذلك، يطرح إشكالاً على الأميركيين من حيث صلاته القديمة بأسامة بن لادن.[24]
 سادساً، في عام 2005 لم يكن الدبلوماسي الأميركي قادراً على رؤية منافس واحد يمكن أن يمثّل وزناً مضاداً لعلي عبد الله صالح. وإلى وقت غير بعيد كانت تصريحات كبار الرّسميين الأميركيين تصبّ في الاتجاه نفسه، مع تأكّد مخاوفهم من أن يحدث تغيير في اليمن من دون ترتيبات مسبقة.[25] والحقيقة أن ما يهم أميركا هو استقرار الحكم الذي يضمن المضيّ قدماً في أشكال التعاون المختلفة في مواجهة تنظيم القاعدة. ولكن الأحداث الأخيرة غيّرت المعطيات على أرض الواقع، حتى صار من غير الممكن القول إنّ علي عبد الله صالح لا يزال ضامناً للاستقرار، فما حدث منذ 16 كانون الثاني/يناير 2011 كان ضدّ ولايته، ولا يزال الناس يطالبون برحيله. وليس هناك عاقل يمكنه الاعتقاد لحظة واحدة أنّ زعيما ما ليس له بديل في بلد فيه 24 مليون نسمة، أو حتى أقلّ من ذلك بكثير. ليس هناك شخص لا يمكن استبداله.
 وأكثر إثارة للاهتمام هو السيناريو الذي تخيلت البرقية وقوعه في سنة 2013، بعد أن كانت قد توقّعت فوز علي عبد الله صالح في 2006، على الرغم من اعترافها بطول عهده مع الفساد كما رأينا في البرقية السابقة، وتصورها لانتقال السلطة في ظلّ الدوائر المتنفّذة نفسها، وهو ما يثير تساؤلات عن حقيقة "الديمقراطية" تحت حكم الرئيس صالح.
الغرب وديمقراطية اليمن
انتشرت في الغرب تعريفات عدة ومختلفة للديمقراطية، فالبعض يركز على عناصرها المؤسساتية والإجرائية، فيما يعطي آخرون الأولوية لعنصر المساواة فيها. وإذا أخذنا تعريفاً تبسيطياً من العلوم السياسية الأميركية يمكن القول "إنّ النظام يكون ديمقراطياً بقدر ما ينتدب أصحاب القرار الجماعي الأقوى فيه من خلال انتخابات دورية يتنافس فيها المرشحون بحرية من أجل الحصول على الأصوات، ويكون فيها جميع الراشدين قادرين على الإدلاء بأصواتهم."[26] إن الغاية الأساسية لهذا التعريف الذي اقترحه هنتنغتون هي حل النزاع بين الجماعات بتوجيهه نحو قنوات سلمية. وهذا ما يتيسر من خلال سيادة القانون وحماية الحقوق المدنية والسياسية. وضمن هذا السياق، يقع تخفيف التوتر المستمر بين حاجة الحكومة إلى ممارسة السلطة وحاجتها إلى أن تظل دائماً متجاوبة مع مواطنيها بفضل بعض الإجراءات والمؤسسات مثل: الانتخابات، الأحزاب، المجالس التشريعية القوية، الإعلام الحرو غير ذلك. وهذا ما يتوافر أكثر في ما يسميه كارل بوبر "المجتمع المفتوح"،مقابل "المجتمـع المغلق"، حيث أن الفارق الأساس بينهما يتعلق بطريقة نقل السلطة.[27] وهو ما يظهر بوضوح في الشكل البياني التالي:
http://www.dohainstitute.org/file/GetCustom/2acb216e-a975-4ec9-8626-4fad65dbd2af/-1
في ضوء هذه التوجهات الفكرية الرائجة غربياً، وبما أن العديد من المراقبين الغربيين (بما في ذلك الأميركيون) أعربوا عن قلقهم من مستقبل هذا البلد الذي ينتشر فيه السـلاح، فضـلاً عن بعض المناطق التي يُعتقد أنها تمثل "ملاذا آمنا" لتنظيم القاعدة، فإن رباطة جأش بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في عام 2005 وقناعتهم الهادئة بدت لنا مدهشة. نقرأ على سبيل المثال: "على الرغم من ضعف المؤسسات وإذعان الأحزاب السياسية، فإن الديمقراطية قد تغلغلت في اليمن بقدر كافٍ يجعلنا نتوقّع أن الجمهور سوف يختار رئيسه المقبل في انتخابات مفتوحة."[28] وبالمثل، نجد في التقرير الصادر عن بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة انتخابات سنة 2006 كـلاماً مشابهاً في إيجابيته: "بوصفه البلد الوحيد في شبه الجزيرة العربية الذي ينص دستوره صراحة على وجود الديمقراطية التمثيلية، اعتُبر اليمن على نطاق واسع نموذجاً مهماً وممكناً لتنمية الديمقراطية في المنطقة". ويؤكد التقرير أن الانتخابات كانت ناجحة "لكونها وفّرت مجالاً مفتوحاً للتنافس السياسي شاركت فيه مشاركة كاملة جميع الأحزاب السياسية الرئيسة وتمكن فيه الناخبون من القيام باختيار حقيقي بين المرشحين".[29]
"
البلد يحتاج، في الحالة الراهنة، إلى أن يثق الناس بمؤسساته التي تعرضت لهزّة كبرى بسبب ردّات فعل النظام الوحشية. ولكن ما سينقذ اليمن من الصراعات الداخلية التي لا يُعرف إلى أين تؤدّي ليس الإطراء والزعم أن الديمقراطية راسخة. فلو كانت راسخة حقاً لما اهتزت لمرور تظاهرة أو عشرين تظاهرة في الشوارع. لهذه الأسباب، نرى أن المسألة السياسية الأساسية المطروحة اليوم في اليمن هي: هل المطلوب مجرد نقل للسلطة (Power Transition)، أم تصحيح المسار الديمقراطي بإنشاء مؤسسات تضمن خضوع الجميع للقانون، وتمنع وجود قوى منافسة للدولة المركزية؟
"
 والحقيقة أن هذا الإطراء، على الرغم ممّا قد يحتويه من حقائق، لا يستوي مع كون الديمقراطيات لا يمكن أن تكون مرتهنة بموافقة القبائل والعسكر. وعلى الرغم من أن المرء لا يمكن أن يشكّك في نتائج أي انتخابات ما لم يتّضح، بالبراهين، وقوع تزوير على نطاق واسع، فإنّ السؤال هو: كيف يمكن أن نصف اليمن بأنه ديمقراطية حقيقية، في حين نعلم، باعتراف الغربيين أنفسهم، أنّ النظام يقوم على التحالفات القبلية ونفوذ العسكر؟
 مع ذلك، ينبغي التذكير بأنّ هذا الكلام قيل قبل ستّ سنوات، وأن ديمقراطية اليمن وضعها أبناؤها في موضع التساؤل حين خرجوا إلى الشوارع وهم يهتفون بسقوط النظام، ويطالبون رئيساً انتخب بنسبة 77،2% بالرّحيل. فإذا كان هذا الأمر يحدث في ديمقراطية، فماذا تكون الحال لو كان علي عبد الله صالح مسلَّطاً على شعبه مثلما تسلط بن علي والقذافي ومبارك وسواهم سنوات طويلة؟ وكيف يمكن الحديث عن نظام ديمقراطي مع علمنا أن تاريخ البـلاد القريب والبعيد غارق في العنف والدم؟ فعلي عبد الله صالح نفسه كان له شأن كبير منذ سنة 1977 في الأحداث التي أدّت إلى اغتيال الرئيس إبراهيم محمد الحمدي وتولّي أحمد حسين الغشمي السلطة، وهو قائده المباشر الذي يدين له بالكثير. ولم تمرّ ثمانية شهور حتى اغتيل الغشمي بقنبلة، وخلفه في الرئاسة علي عبد الله صالح.
 ولا شكّ في أنّ البلد يحتاج، في الحالة الراهنة، إلى أن يثق الناس بمؤسساته التي تعرضت لهزّة كبرى بسبب ردّات فعل النظام الوحشية. ولكن ما سينقذ اليمن من الصراعات الداخلية التي لا يُعرف إلى أين تؤدّي ليس الإطراء والزعم أن الديمقراطية راسخة. فلو كانت راسخة حقاً لما اهتزت لمرور تظاهرة أو عشرين تظاهرة في الشوارع. لهذه الأسباب، نرى أن المسألة السياسية الأساسية المطروحة اليوم في اليمن هي: هل المطلوب مجرد نقل للسلطة (Power Transition)، أم تصحيح المسار الديمقراطي بإنشاء مؤسسات تضمن خضوع الجميع للقانون، وتمنع وجود قوى منافسة للدولة المركزية؟
أهداف الثورة
لا يمكن أن تنشأ الديمقراطية وتتطور بسلامة في ظلّ دولة تعتمد في بنائها وسندها قوى منافسة للدولة المركزية بمفهومها الحديث. وهناك تعريفات عدة لما يعنيه بناء الدولة- الأمة، وهناك أيضا قواسم مشتركة يتفق عليها الملاحظون، أهمها، كما لخصها المؤرخ بلاك، أن السمة الأساسية في الدولة ـ الأمة هي "دعم القرار السياسي، أو ما يعادله، أي مركزية السلطة السياسية."[30] وهذا الدعم الذي يستفيد من ثورة الاتصالات الحديثة نابع، بحسب بلاك، من "رغبة الزعماء التحديثيين [من أهل السياسة ورجال الأعمال] في تعبئة موارد المجتمع وعقلنتها ضمن رؤية تستهدف تحقيق قدر أكبر من السيطرة والفاعلية والإنتاج". والسمة الثانية للدولة-الأمّة الحديثة، بحسب بلاك، تكمن في توسع وظائفها على حساب الأشكال السياسية السابقة. فليس من المعقول، بحسب هذا المنظور، أن تقوم القبائل أو أي نوع من التكتلات السابقة بوظائف الدولة. والسمة الثالثة هي غلبة القواعد القانونية، وهو ما يؤدّي عادةً إلى نموّ البيروقراطية. والسمة الرابعة هي تنامي دور المواطن في الدولة - الأمة الحديثة وتزايد تدخّله في الحياة العامة.[31]
لو تأمّلنا الآن مطالب المعارضة اليمنية، لوجدنا ما يمكن أن يوحي بأن هناك تياراً يدفع نحو تغيير المؤسّسات وليس تغيير الأشخاص وحدهم. وقد تكون المعارضة نفسها ميدان صراع بين رؤيتين، إحداهما تركّز على أقرب الطرق وأسلسها للتخلص من علي صالح واستبدال سلطته والقيام ببعض الإصلاحات الضرورية، والثانية تشدّد على أنّ التغيير الديمقراطي والتحديثي يتطلب مؤسّسات حديثة وديمقراطية، وليس نقل السلطة من قيادة إلى أخرى فحسب. ويبدو هذا واضحاً من تطوّر هذه المطالب.
 لقد كانت الأهداف المعلن عنها في شباط/فبراير 2011 مختلفة عمّا نراه الآن. وتضمن البيان الذي أصدره تحالف أحزاب اللقاء المشترك (المعارضة الرئيسة في اليمن) في 14 شباط/فبراير ستة مطالب يجب على الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) الاستجابة لها [32] وهي: بناء الدولة اللامركزية لجميع أبناء اليمن والتي تسودها العدالة والمساواة، والاعتراف بالقضية الجنوبية وحلّها حلاً عادلاً، والوقف النهائي للحروب فى "صعدة" في شمال اليمن. وشملت المطالب التوزيع العادل للثروة، وحلّ المسألة الاقتصادية لتحقيق العدالة والمساواة فى التوزيع بما فى ذلك الوظيفة العامة، وحلّ مشكلة البطالة، وإنهاء الفساد، وتوازن الأجور والأسعار، والقضاء على الفساد، وبناء المؤسسات الوطنية بعيداً عن المحسوبية وعلى أساس وطني بعيداً عن الولاءات، ووفقاً للكفاءات. أمّا المطلب السادس من مطالب المعارضة فهو "ضرورة جعل مواجهة الإرهاب قضية وطنية بعيداً عن التوظيف والاستثمار، لأن هذه الآفة تهدّد استقرار البلد، ولا بد من أن تجنَّد لمواجهتها جميع الإمكانات الوطنية بصورة مختلفة عمّا يجري اليوم". ومن الواضح أن هذه الأهداف يمكن الالتفاف عليها ليس لأنها موجَّهة إلى الحزب الحاكم فحسب، وهو المسؤول عن الأزمة، بل لأنها لا تفترض تغييراً هيكلياً لمؤسسات السلطة وتحالفاتها التقليدية أيضاً. ثم ظهرت في 30 آذار /مارس 2011 المطالب[33] التالية:
  • تنحِّي الرئيس علي عبد الله صالح عن السلطة [وهذا لم يذكر في البيان السابق].
  • فرض حظر على مشاركة عائلته في الشؤون المدنية والعسكرية [لم يذكر في البيان السابق].
  • إبطال العمل بالدستور الحالي [لم يذكر في البيان السابق].
  • تأليف مجلس وطني مؤقّت من خمسة أعضاء لا علاقة لهم بنظام عبد الله صالح على أن يكون بينهم ممثّل للشباب، وإعلان فترة انتقالية مدّتها ستّة شهور يحلّ فيها البرلمان ومجلس الشورى [لم يذكر في البيان السابق].
  • يعيَّن المجلس تكنوقراطيا لتأليف حكومة مؤقتة [لم يذكر في البيان السابق].
  • استعادة الممتلكات العامة والخاصة المنهوبة والإفراج عن السجناء السياسيين [لم يذكر في البيان السابق].
  • إلغاء وزارة الإعلام وتمكين الصحافيين من ممارسة مهنتهم بحرية [لم يذكر في البيان السابق].
  • تفكيك أجهزة أمن الدولة والمخابرات ومجلس الدفاع وتأسيس منظمة أمن وطني بدلاً منها تحت إشراف وزارة الداخلية، على أن تكون مهمتها مقصورة على التحقيق، والوقاية من التهديدات الخارجية للأمن الداخلي [لم يذكر في البيان السابق].
  • حلّ المجالس البلدية والمجلس الأعلى للقضاء، وإقالة المدّعي العام، وإنشاء محكمة دستورية عليا [لم يذكر في البيان السابق].
أخيراً، أعلنت أحزاب المعارضة اليمنيّة في تكتّل «اللقاء المشترك» أنها أقرّت في 2 نيسان/ أبريل 2011، رؤية مشتركة في مسألة انتقال السلطة في اليمن، وجاء البيان كالتالي:
أولاً: يعلن الرئيس تنحِّيه عن منصبه، وتنتقل سلطاته وصلاحياته لنائبه.
ثانياً: يعمل النائب، فور تولِّيه السلطة، على إعادة هيكلة الأمن القومي، والأمن المركزي، والحرس الجمهوري، بما يضمن تأديتهم لمهامهم وفقا للدستور والقانون تحت قيادات ذات كفاءة ومقدرة بمعايير وطنية ومهنية بعيدا عن معايير القرابة والمحسوبية وتخضع لسلطة وزارتيْ الداخلية والدفاع.
ثالثاً: يتم التوافق مع الرئيس المؤقّت (النائب سابقا) على صيغة للسلطة خلال الفترة الانتقالية تقوم على قاعدة التوافق الوطني؛ بحيث يتم التالي:
1- تشكيل مجلس وطني انتقالي تمثَّل فيه كلُّ ألوان الطيف السياسي والاجتماعي وشباب الساحات ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني والمرأة على أن يشمل كل مناطق اليمن. ويتولى بصورة أساسية:
   أ- إجراء حوار وطني شامل تشارك فيه جميع الأطراف السياسية في الداخل والخارج من دون استثناء وتطرح فيه جميع القضايا على طاولة الحوار للخروج بحلّ لجميع القضايا ومنها القضية الجنوبية، والتوصّل إلى رؤية للإصلاحات الدستورية الكفيلة بتحقيق الحريات السياسية والثقافية وبناء الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة بنظام لا مركزي مع تطوير النظام السياسي على قاعدة النظام البرلماني والأخذ بالقائمة الشعبية.
   ب- تشكيل لجنة من الخبراء والمتخصّصين لصياغة مشروع الإصلاحات الدستورية في ضوء نتائج الحوار الوطني الشامل.
2- تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقّتة تترأّسها المعارضة وتمثل فيها أطراف العمل السياسي وشباب الساحات ورجال الأعمال، وتتولى إضافة إلى مهامها الدستورية تسيير الأمور وتصريف الأعمال، وتثبيت الوضع الاقتصادي والمالي، والحيلولة دون المزيد من التدهور في جميع المجالات.
3- تشكيل مجلس عسكري مؤقّت من القيادات العسكرية المشهود لها بالكفاءة والنزاهة وتحظى باحترامٍ وتقدير في أوساط الجيش، بحيث تمثل في المجلس كل تكوينات القوات المسلحة، ويشرك فيه ممثلون عن المقعدين قسريا بعد حرب 1994، وذلك بصورة تجسد وحدة هذه المؤسسة و وطنيتها لتقوم بدورها وواجباتها الدستورية باعتبارها «ملكا للشعب كله ومهمتها حماية الجمهورية وسلامة أراضيها وأمنها»، بالإضافة إلى مهمتها المؤقّتة في حماية ثورة الشعب السلمية، والحفاظ على الأمن والاستقرار وصيانة كيان الدولة.
4- تشكيل لجنة عليا للانتخابات والاستفتاءات العامة تتولى:
 - إجراء الاستفتاء على مشروع الإصلاحات الدستورية.
 - إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بحسب الدستور الجديد.
5- تأكيد حقّ التعبير السلمي وحرية التظاهر والاعتصامات السلمية وغيرها لجميع أبناء اليمن، ويتم التحقيق في الاعتداءات التي تعرّض لها المتظاهرون في جميع الساحات وعلى وجه الخصوص مجزرة عدن وصنعاء وأبين وغيرها من الحالات التي استخدم فيها الرّصاص الحيّ والقنابل الغازية وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة، وتعويض الجرحى والمعوقين وأسر الشهداء."
وفي هذا البيان عرضت للمرة الأولى، وبوضوح مسألة "الإصلاحات الدستورية الكفيلة بتحقيق الحريات السياسية والثقافية وبناء الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة بنظام لا مركزي مع تطوير النظام السياسي على قاعدة النظام البرلماني، والأخذ بالقائمة الشعبية". وهذا ما يضع الثورة اليمنية على المسار نفسه الذي اتخذته الثورة في تونس ومصر. يبقى أنّ بناء الدولة-الأمة الحديثة في هذين البلدين أتى من معوقات بيروقراطية أكثر منها معوقات قبلية. وفي تونس، بقي الجيش على حياد تام.
نقل السّلطة ليس غاية في ذاتها
"
شارف اليمن طوال سنوات عديدة على التحول إلى "دولة فاشلة بسبب النزاعات المدنية والقبلية والتدخلات الأجنبية وتدني مستويات التربية والافتقار إلى البنية التحتية والحكم الصالح. وقد تفاقمت هذه المشكلات وازدادت حدة في السنوات الأخيرة." ومنذ سنة 2009 تحديدا، شهد اليمن ظاهرة التحالفات بين عناصر إسلامية راديكالية تنتمي إلى القاعدة وبعض القبائل الأمر الذي أثار قلق الجيران الخليجيين والغرب في آن واحد."
الواضح من التطور المطلبي أنّ الثورة اليمنية التي بدأت غائمة الأهداف بعض الشيء، تدخل منعرجاً جديداً قد يكون أكثر راديكالية. فالمعارضون يعلمون أن نقل السلطة ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لوضع سياسات جديدة. ولقد اشتبه الأمر في البداية جراء غياب زعامات معروفة لهذه الثورة، وحضور كثيف للزعامات التقليدية. ولذلك سيطر الاعتقاد أنّ ما يريده معارضو استمرار علي عبد الله صالح في السلطة هو تنحّيه من أجل اختيار شخصية أخرى تحلّ محلّه، مع الاحتفاظ بالمؤسّسات نفسها والإجراءات المعمول بها، مع بعض التغييرات والإصلاحات الجزئية، وهو ما كان ممكن التحقيق بالتفاوض على إجراءات انتقال السلطة بشكل سلمي، ومن ثم يجري وضع ترتيبات تحفظ كرامة الجميع، فلا يتمزق اليمن ولا يعود شبح الحرب الأهلية مجددا، ثم تنظم في مرحلة ثانية انتخابات لاختيار رئيس جديد للبلاد. هذا هو ما سمّي "انتقال السلطة" بشكل سلس.
ولكن شباب التغيير يبدو اليوم مصراً على فرض جدول أعمال لثورة مدنية ديمقراطية كما هي الحال في تونس ومصر، من أجل إرساء نظام سياسي جديد. وفي هذه الحال، فإنّ النتائج تأتي على عكس ما يسعى إليه حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الرّئيس علي صالح، أي تحقيق الاستمرارية من خلال القبول بخطوات إصلاحية، حتى مع تنحِّي الرئيس عن الحكم كما صرّح بنفسه.
في حال نجاح الثورة في فرض جدول أعمال الديمقراطية التي عبّرت عنها المطالب الآنفة الذكر، ينبغي التأكيد على ضرورة القطع مع التقاليد غير الديمقراطية المتمثلة في السّماح للقبائل والجيش بالتدخّل في بناء إواليات الحكم الحديث. ويبدو أن هذا الأمر غير واضح حتى الآن.
القبيلة أم المواطنة؟
شارف اليمن طوال سنوات عديدة على التحول إلى "دولة فاشلة بسبب النزاعات المدنية والقبلية والتدخلات الأجنبية وتدني مستويات التربية والافتقار إلى البنية التحتية والحكم الصالح. وقد تفاقمت هذه المشكلات وازدادت حدة في السنوات الأخيرة."[34] ومنذ سنة 2009 تحديدا، شهد اليمن ظاهرة التحالفات بين عناصر إسلامية راديكالية تنتمي إلى القاعدة وبعض القبائل الأمر الذي أثار قلق الجيران الخليجيين والغرب في آن واحد. ولم يقف الأمر عند حدّ "منح اللجوء" لعناصر القاعدة، وإنما بلغ درجة تدخل ذوي النفوذ لتأمين مصلحة حلفائهم بشكل يدوس القوانين اليمنية ويضرّ إضراراً كبيراً بالدولة.[35] ولا يخفى أنّ "القاعدة" تسعى إلى تحويل اليمن إلى أفغانستان ثانية، وهو ما يتنافى تماما مع مطالب الثورة الوطنية الديمقراطية التي يمكن إيجازها بالتالي: ترسيخ دولة القانون، وإلغاء الامتيازات والمحسوبية بجميع أشكالها، والارتقاء بالمجتمع اليمني من هيكلية توظف فيها القبيلة والعشيرة والعائلة للسيطرة على الموارد العامة، إلى مجتمع يقوم على المساواة بين مواطنيه على أساس القانون من دون اعتبار لأي انتماء ما عدا الانتماء إلى الوطن الواحد.
وقد كانت مراعاة الانتماءات القبلية جزءا من اتفاق الوحدة سنة 1990، حيث نجد أنّ تكوين مجلس الرئاسة خضع لـِ "مراعاة الانحدار المناطقي والانتماءات القبلية للأعضاء".[36] وهذا ما يجب الآن إعادة النظر فيه. فالبحث عن الطريقة الأسلم التي تضمن أفضل تمثيل للمواطنين اليمنيين في مؤسسات دولة يفترض أنها حديثة وديمقراطية، يستوجب الابتعاد عن تشجيع النعرات القبلية والتعصّب للعشيرة والعائلة على حساب الوطن الواحد والنظام الديمقراطي. ويعني هذا إقرار معايير جديدة مغايرة للتمثيل السياسي، ربما تلعب فيها الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني الدور الذي تلعبه في المجتمعات المتقدمة، عوضاً عن القبائل والجيش. وإذا نجح اليمنيون في تجاوز هذه العقبة، وإيجاد الحلّ الأمثل للتخلّص ممّا كان يعيق سيرهم، فإنهم سيتوصّلون إلى تشريع القوانين التي تحفظ مكتسبات الثورة الوطنية المدنية الديمقراطية وقوامها سيادة الشّعب من خلال مؤسّساته التمثيلية. والاختيار هنا واضح لا لبس فيه: إمّا أن يسود المواطنون ومفاهيم المواطنة والقانون، أو أن تسود القبائل والسلوكيات نفسها.
ما الذي ينبغي الانتباه إليه؟
أمام اليمنيين اليوم الحلّ المدني الديمقراطي الذي يتماشى مع مطالبهم المذكورة آنفا. وهو ليس بالسهل، ولكنه الأكثر ضماناً للاستقرار والسلام المدني على المدى الطويل، ويفترض أن يسعى الزعماء إليه ويجتهدوا في إنجاحه. ولن يتم لهم ذلك من دون خطة واضحة، ذات مراحل، على أن يتم تنفيذها بدعم من الأغلبية الجديدة التي ستفضي إليها المرحلة الأولى من الثورة. بيد أن الذين يتمتعون بالسلطة والنفوذ والامتيازات لن يستسلموا من دون مقاومة. ومن المحتمل أن تحاول بعض مراكز النفوذ لعب دور في الفترة الحاضرة والمقبلة، بحسب ما يتاح لها من حلفاء وموارد. وهناك خمس دوائر يمكن أن يكون لها تأثير في هذه الحالة: 1- أحزاب المعارضة. 2- حزب المؤتمر الشعبي. 3- الشباب. 4- القبائل. 5- الجيش.
1- أحزاب المعارضة: السؤال هنا عمّا إذا كانت المعارضة قادرة على توحيد صفوفها واختيار ممثلين يتجاوزون ارتباطاتهم القبلية والعشائرية ضمن تصور جديد للدولة الديمقراطية. إن ما يسمى اللقاء المشترك، وهو التكتل الذي جمع منذ 2003 كـلاً من التجمع الوطني لـلإصـلاح، والحزب الاشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب الحق، والتجمع السبتمبري، واتحاد القوى الشعبية اليمنية[37]، يقف اليوم في الصف المعارض للرئيس عبد الله صالح وحزبه. ولكن المعارضة شيء والتأسيس شيء مختلف. فإذا تنحَّى الرئيس صالح عن الحكم ربما تزول الحاجة إلى استمرار "اللقاء المشترك"، وقد يختار كل طرف من يمثله في الهيئات التأسيسية الجديدة.
2- حزب المؤتمر الشعبي العام: الأحزاب السياسية لا تستمر لأنها موالية لـلأشخاص وإنما لأنها تقدم أفكارا ورؤية وبرامج للمرحلة. وليس من الضروري أن يغيب حزب المؤتمر بغياب علي عبد الله صالح. قد يكون من الممكن، بل من المفيد، أن يستمر هذا الحزب إذا قبل شروط اللعبة الجديدة، وأهمها تجاوز القبلية والانتماءات المضادة للنظام الديمقراطي والدولة الحديثة. وقد اتجه "اللقاء المشترك" هذا الاتجاه حين أوحى أن في إمكان الرئيس علي صالح تسليم السلطة إلى نائبه الذي سيتولى مهمات انتقالية.
3- الشباب: إن عددا ممّن حركوا الثورة من ساحة التغيير في صنعاء قاموا بدور مماثل لما قام به الشباب في تونس ومصر، وبينهم طبعا مناضلون في حركات سياسية يمنية، وهم، مهْما يكن الأمر، يمثلون مستقبل اليمن. ومن المعقول، بل ومن المطلوب أن تكون لهم كلمتهم، وقد بدؤوا فعـلاً في إيصال صوتهم من خـلال إعـلان مطالب حركتهم.[38]وينبغي أن نتصور وضعاً يكون فيه زعماء الحركة الشبابية في مقدمة الهيئات التأسيسية الجديدة.
4- القبائل: قام النظام اليمني على ركني القبيلة والجيش. وعلى الرغم من أن الدولة الحديثة وبشكل خاص الديمقراطية لا ترتكز على مثل هذه المفاهيم، فإن الوضع في اليمن وفي بعض الدول العربية الأخرى يعتمد القبيلة والجيش أكثر من أي وسيلة أخرى لتحقيق نوع من الاستقرار المبني على توازنات قد تكون اليوم مفتعلة إلى حد كبير، إذ ظلّت فترة طويلة خادمة للحكام الأوتوقراطيين وللشيوخ المنتفعين وليس للشعب بمفهومه الحديث. وليس من الواضح أنّ الثورة اليمنية الحالية تجعل هذه الأحوال موضع سؤال. وبالتالي نتوقّع، على الأقل في المدى القريب، استمرار النفوذ الذي تمارسه القبائل في السياسة، كما لا نستبعد أن يتنازل بعض الشيوخ في صوغ المستقبل. لنقل إنّ هذا لن يكون في مصلحة الثورة المدنية الديمقراطية حتماً، وإنما في مصلحة استمرارية النظام القديم من خلال مؤسسات النظام الجديد. فإذا لم يكن في الإمكان في هذه المرحلة تلافي هذا الأمر أو التخفيف من آثاره، فلا بد، مع ذلك، من الانتباه والتنبيه إليه. وإذا كان هذا الجيل اليمني الجديد مؤمنا بالديمقراطية فإن المرحلة المقبلة لبناء الدولة الحديثة تفرض، بكل تأكيد، تفكيك الهياكل القبلية وكل ما من شأنه أن يعلي كلمة القبيلة والعشيرة فوق كلمة القانون.
5- الجيش: ما يقال عن نفوذ القبيلة يقال عن الجيش أيضاً. ليس هناك دولة ديمقراطية حديثة في العالم تفسح في المجال للجيش كي يتدخل في السياسة. ولكن بناء الدولة الحديثة في اليمن قام على الجيش، كما هي الحال في بلدان عربية أخرى.ومن ثم، ولأننا لم نلمس في مطالب الشارع اليمني ما يضع دور الجيش موضع تساؤل، ما عدا الانتقادات التي وجهت إلى ما فعله في حرب صعدة، فليس من المستبعد أن تقع محاولات للالتفاف على الثورة المدنية الديمقراطية وتغليب بعض العناصر العسكرية في ميدان الصراع على السلطة. وهنا يجب التنويه إلى أن مكان الجيش في زمن السلم هو الثكنات.
خـلاصة ونتائج
 جاءت مطالب "ساحة التغيير" لتجعل الوضع في اليمن يدخل حالة جديدة لم يتوقعها أحد قبل أيام فقط. ما عاد في الإمكان اليوم التصرف وكأن الأحزاب التقليدية، والقبائل، هي وحدها في الساحة. وليس في الإمكان القول إن هذه الثورة كانت "مناورة سياسية" من المعارضة لافتكاك السلطة، كما توحي بذلك بعض التقارير. وحتى لو كانت المعارضة هي التي حرّكت الناس في البداية، تحت تأثير الثورتين التونسية والمصرية، فإن شيئاً خطيراً حدث في تلك الأثناء: لقد أصبح المجتمع اليمني منقسماً عمودياً وأفقياً. فقد انضم إلى الشباب عناصر النخبة المدنية والعسكرية، وجاءت القبائل لتدعم الحركة. وهذا الحراك لا يحدث في فراغ، وإنما في سياق معطيات اجتماعية وسياسية موضوعية قد تتغير في المستقبل إذا نجحت الثورة، إنما ينبغي الآن أخذها في الاعتبار.
المشكلة الآن لا تطرح بالطريقة القديمة: ما البديل عن علي عبد الله صالح؟ هناك آلاف البدائل. ففي الدول الحديثة، الأشخاص يأتون ويمضون، ولكن المؤسسات تبقى. فالسؤال إذاً هو: ما هي المؤسسات التي يريد اليمنيون بناءها لتعويض النظام الذي ثاروا عليه؟ وما نعرفه أن "الديمقراطية اليمنية" في عهد علي عبد الله صالح لم تنتج زعماء بقدر ما كرّست زعامة رجل واحد طوال 32 سنة. ولم يكن هذا الأمر ممكناً لو كانت البنى والمؤسسات التي تقوم عليها الدولة في اليمن تغلب الانتماءات والولاءات التقليدية، وهو ما يجعل اليمن في وضع الأنظمة "الأبوية الوصائية" Patrimonial، وهي درجة أقل شدة من الديكتاتورية الواضحة التي مارسها نظام بن علي والقذافي وصدام حسين، ولكن النظام اليمني، مع ذلك، نظام متخلف بجميع المقاييس. ولا يغرّك ما يقوله البعض عن كونه "الديمقراطية الوحيدة في شبه الجزيرة العربية". وحين نتساءل: ما هو البديل؟ فإن الجواب أتى به المعارضون في ساحة التغيير بأنفسهم من خلال لائحة مطالبهم.
ربما يسيطر على الفترة الحالية بعض الغموض، بسبب "الوضع الخاص" للمجتمع اليمني الذي يحاول علي عبد الله صالح وغيره من أصحاب السلطة والنفوذ استغلاله لتمرير "حلولهم" للأزمة، وهي "حلول" معروفة منذ سنوات. ومن الواضح أن الأميركيين (وقد دخل الأوروبيون أيضاً على الخط من خلال الوساطة) كان لهم تصورهم لمرحلة ما بعد علي عبد الله صالح، وتخوّفاتهم كذلك. وقد كان المرشّحون الأكثر احتمالاً لخلافة الرئيس صالح هم:
1- اللواء علي محسن الأحمر قائد المنطقة الشمالية الشرقية الذي يعتقد أنه من أقوى الخلفاء المحتملين، كما وصفته برقيات السفارة الأميركية في صنعاء. وأضافت أنه الأقدر على قيادة انقلاب عسكري. وهناك إشارة إلى أنه في حال ابتعاد صالح عن السلطة بشكل مفاجئ، فإنّ "قادة المناطق العسكرية الخمس سيكونون مرشحين محتملين ليختار زعماء القبائل من بينهم الرئيس المقبل". و لكن هذا الكـلام قيل في 2005. أمّا اليوم، فالقادة تغيّروا. وبالمناسبة فقد كان الرئيس صالح يغيّرهم بانتظام باستثناء اللواء علي محسن. فمن يريده؟ هل يحتاج اليمنيون إلى "رجل قوي" أو "عسكري"، أم يحتاجون إلى مؤسسات مدنية قوية ؟
2- من بين المرشحين المحتملين عنصران من الجيل الثاني لعائلة الأحمر هما الشيخ الصادق وهو الأكبر من أبناء الشيخ عبد الله، وهو الآن رئيس العائلة وربما يكون الشخصية الرئيسة في الأسابيع والأشهر المقبلة، والشيخ حميد الذي يدير إمبراطورية العائلة التجارية الكبيرة. ولكن، يبدو لي أن الأشخاص، مهما كانت أهميتهم لقبيلتهم، ينبغي أن يخضعوا لامتحان الديمقراطية الذي يتساوى فيه شيخ القبيلة مع أكثر الناس تواضعاً فيها، ومالك الأراضي الثريّ مع المواطن الفقير، أو القادم من الطبقة الوسطى. وقد كانت هناك شخصيات يدور حولها الكلام مثل أحمد علي ابن الرئيس (وهو عميد ركن في الجيش اليمني ورئيس وحدة العمليات الخاصة اليمنية والحرس الجمهوري) وقد هيّأه والده خليفةً محتملا. إلاّ أنّ الرئيس صالح، في محاولة لتهدئة المعارضة، أعلن مؤخّراً أنه لن يترشّح لولاية أخرى، وليس هناك نيّة لتوريث ابنه السّلطة. وقد يبدو هذا الكـلام معقولاً فـي وضع يتّسم بالغليان والغموض. لكن أحد مطالب المعارضة اليوم يتعلّق بإبعاد عائلة عبد الله صالح تماما عن الحكم، وربما بمحاسبتها أيضا.[39]
 أخيرا، وعلى الرغم من وجود مطلب واضح بإبعاد عائلة عبد الله صالح عن أجهزة الدولة، فإنّ نظاماً ديمقراطياً يفترض أن يضمن المساواة لجميع المواطنين، لا يمكن أن يكون مجحفا بحقّ بعض الذين لم يكن لهم أيّ ضلع في الفساد والقتل. ومن ثم، فليس من الضّروري أن نرى في جميع أفراد عائلة عبد الله صالح أعداء محتملين للثورة، ولا سيّما أنّ بعضهم تخلّى عنه وأعلن أنّه يدعم ساحة التغيير. واعتقد أنّ هناك حاجة إلى التحقيق وإثبات التهم التي قد لا تقوم على شيء سوى الكيد الثأري أو نفْيها، وهو استمرار للعقلية القبلية. وتبدو الحاجة ماسّة إلى قضاء مستقلّ. بيد أنّ الثورات في النهاية لها منطقها الخاصّ، وهو غالبا منطق يتجاوز الماضي ويؤسّس المستقبل. وفي هذه الحركة المضاعفة (التجاوز والتأسيس) تُطوى الصفحة تماما. فكأنّ التاريخ يبدأ من جديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق