تشرق الشمس في "الدائري" كوميض "كاميرا" يقتنص روعة المشهد،
مجموعات متناثرة من الشباب، ما بين منهمك برفع اللافتات و الشعارات، و مشغولٍ بتثبيت
الصور، و من يتفانى في تخطيط الاسفلت بالأرقام و الرموز بهِمّة و تعاون كما لو كان
كل واحدٌ منهم في بيته يستعد لاستقبال ضيوف يشبهونه في الثورة و الفرحة، يكمل الضيوف
مراحل الإعداد وصولاً إلى الفقرات، حيث الجمهور هنا أهم فقرة في الحفل، يرسمون لوحة
جميلة هم بروازها الأجمل.
إلى وقتٍ قريب كان الاحتفال بالأعياد الوطنية في إب و غيرها من المحافظات مثار
انزعاج شعبي نتيجة الأجواء الأمنية المشحونة في المحافظة التي تستضيف عيداً من تلك
الأعياد، و يتحول أهل المحافظة إلى "أغراب" بين نقاط التفتيش و وجوه جديدة
تنتشر بين الناس توجساً، فضلاً عن ذلك كانت تلك الأعياد مناسبة مهمة للبذخ الرسمي وسط
تضليل حكومي يتحدث عن المحافظة على المال العام و ترشيد الإنفاق، و تأتي الأعياد بالأرقام
المليونية التي لا يسمع الناس عنها إلا في الوعود الانتخابية الكاذبة و يقال بأن تلك
الأرقام هي ما استفاده المواطنون من احتضانهم لهذا العيد أو ذاك، و أرقام أخرى لا يعلمها
إلا الله و الراسخون في الهَبر، يعرف أهل إب مثل هذا الكلام و يتذكرون بحسرة تجاربهم
مع الاحتفالات بالأعياد الوطنية و ما يرافقها من مشاريع تنتهي جودتها عقب الانتهاء
من تلك الاحتفالات التي يُدعى إليها أهل الحضوة الرسمية، و يغيب عنها المواطن باستثناء
بعض الطلبة الذين يشاركون بالاستعراضات و الرقص بمقابل مادي يخضع لقانون عرقوب!.
و لأن الثورة الشبابية الشعبية السلمية بصدد تغيير المفاهيم ثم الممارسات فقد
غيّرت معادلة هذه الاحتفالات الوطنية لترتبط أولاً بالمواطن الذي أساس التنمية بل هو
أساس بناء و بقاء الدول، و لأول مرة في تاريخ الأعياد الوطنية يخرج الناس البسطاء العاديين
إلى الساحات و الشوارع يطلقون الألعاب النارية و يؤدون الرقصات الشعبية و الاستعراضات
و يرددون الأناشيد و الأهازيج ابتهاجاً بتلك المناسبات الوطنية، التي خرجت من بروتوكولات
المنصة الرسمية و حفل الاستقبال –الذي يأخذ ساعة من وقت نشرة الأخبار- قبل تقطيع الكعكة
الكبيرة مصحوباً بضجيج رؤوس المصالح و قهقات الوجوه المنتفخة، التي ظلت لفترة تعتقد
بأن الوطن ليس سوى كعكة جاهزة للتقسيم و التقاسم، فهذا وطني بسيارة و ذاك وطني بمنصب،
و آخر وطني بقطعة أرض، و رابعهم وطني بمقابل مادي دون أي عمل!.
يستعيد الناس اليوم وطنيتهم التي صادرها المحتفلون على أشلاء الوطن و جراح المواطن،
كما يتدربون على الاحتفال بأكبر فرحة و أقل تكلفة، و هناك روايات عجيبة عن تكاليف الاحتفالات
الأخيرة التي أقامتها ساحات الثورة في عموم الوطن لا تكاد تُذكر، و إذا أضيف إليها
ابتهاج الناس و تفاعلهم في المشاركة فإن الحِسبة تغدو أصفاراً، و في القلوب يكنز الناس
وطناً غالي الثمن، و يمكنك أن تستحضر ما يردده كبار السن من حكمٍ تقول أبرزها: أهم
شيء طيبة النفس!، طابت أنفس الناس بالاحتفال فهانت التكاليف، و توزعت فرحة الاحتفال
مجاناً على الحضور و هي ترسم البسمة في شفاههم، و تترك البِشر على وجوههم، كما لو أن
المناسبة في ذكراها الأولى، و الفرحة في مُبتداها، تثير الأسئلة: هل يفرح الناس بالمناسبة
أم تفرح المناسبة بهم؟!، و كيف غيرت الثورة مواقع المحتفلين و الجمهور، يصعد الجمهور
منصة الاحتفال، و يغادر المحتفلون المنصة إلى مكان الجمهور، تَشرُد الفرحة من النخبة
الحاكمة إلى الجماهير كحاكمٍ جديد!.
عند الظهيرة يلملم المحتفلون أشياءهم، و يعجزون عن لملمة فرحتهم المتناثرة التي
أحيَت موات "الدائري" و هو مكتظٌ بالناس و بالرسائل التي يصعب على موتى السياسة
التقاطها فضلاً عن فهمها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق