الجمعة، يوليو 01، 2011

اليمن..سقط النظام لكنه لم يرحل (مروان الغفوري)


يوميات الثورة / القدس العربي
تحمّس الثوار في اليمن لفكرة العصيان المدني الشامل. بدأت الدعوات إليه منتصف شهر آذار/مارس مستندة إلى فكرة بسيطة: العصيان المدني سيثبت عملياً عدم فاعلية النظام. بمعنى آخر: خروجه عن القضبان وسقوطه الفعلي، على الأقل: أمام العدسات حتى إعلام النظام فقد تجاوب مع هذه الفكرة وجاءت مانشيتات وسائل إعلامه: فشل العصيان المدني في مدينة لحج. على سبيل المثال. كانت الثورة تسعى إلى أن تكون الحقيقة الكلية القائمة على آثار نظام ساقط كان هو، لثلث قرن من الزمن، أم الحقائق. وكان النظام يصرّ على تسويق فكرة مركزية: الثورة اليمنية موضة غير مكتملة الشروط ولا الأركان. تحدث صالح بمثل هذا في خطابات التي بلا عدد، كثيراً. استمر الكر والفر حول فكرة العصيان المدني. وبالنسبة للثورة فقد كانت تفكر، بالفعل، لكنها كانت كمن ينزل إلى الحلبة وهو لا يعرف ما إذا كان خصمه يضرب باليمين أم بالشمال.
بعد شهرين دشن النظام رسميّاً عملية العصيان المدني. لقد استلم زمام المبادرة وقفز إلى الأسوأ. عطّل الكهرباء، المواصلات، البنزين، التموين الغذائي، والأمن. وبحسب صحيفة المصدر الأهلية نقلاً عن مصادرها في شركة النفط اليمنية فإن أزمة المشتقات النفطية، على سبيل المثال، تدار عبر نجل الرئيس شخصيّاً. أما الكهرباء فهي الموضوع الأكثر إثارة، فبعد رحيل صالح إلى السعودية للعلاج نظراً لأن دولته الحديثة لم توفر بنية صالحة لإنقاذه هو شخصيّاً فقد عاد التيار الكهربائي على مدار الساعة لمدة يومين كاملين. ربط المواطنون بين هذا الشكل من البهجة والوفرة وبين غياب صالح. تنبّه أبناء صالح للخطيئة التي وقعوا فيها، ومنذ ذلك الحين خرج اليمن عن أسلاك الكهرباء إلى طريق الشموع. حتى الشمعة الصغيرة الواحدة أصبح سعرها يقترب من دولار أمريكي. وعندما كتبتُ مقالة بعنوان 'غاب صالح فقلت التوابيت' وصلتني رسائل قراء على شاكلة: نخشى أن يكتشف أبناء صالح مثل هذا التحوّل فيحافظون على منسوب التوابيت عند سابق عهده قبل رحيل صالح إلى المملكة.
لقد دشّن نظام صالح العصيان المدني، وشل الحياة برمّتها. وبالنسبة للثورة فهي أسقطت صالح أخلاقياً للمرة المائة. وأسقطته عملياً على نحو أدخل اليقين الصعب إلى قلبه الحائر. وبالنسبة للمفكر المعارض ياسين سعيد نعمان فصالح أيضاً سقط سياسيّاً، أو هو: ميت سياسيّاً، وفقاً لمعارض آخر مرموق، قبل أن يكون ميتا سريريّاً. حسناً، سقط نظام صالح، ودخل صالح إلى السرداب. لقد سقط النظام لكنه لم يفر، لم يهرُب. سقط ولم يرحل.
نجحت الثورة في تحقيق الجزء الأول من مشوارها الحضاري: إسقاط النظام. لم تفكر الثورة بعد، عبر مكوناتها العديدة وآليات تفكيرها الذكية، بسؤال: كيف ستتعامل مع مآلات النظام؟ لقد تحوّل النظام من 'رابطة مصالح تحكم البلد' إلى عصابة تتحكم وتدير مشروع صالح المتساقط بقواعد لعب 'تحت الحزام'. لقد توقعت الغارديان البريطانية مثل هذه المآلات: لم يعد صالح قادراً على أن يستمر في الحكم لكن بإمكانه نشر الفوضى. ها هو نظام صالح ينشر فوضاه على شكل دوّامات فائقة. بدت الثورة على شكل موجة عالية الكثافة محددة البنية: الفكرية والأخلاقية. أسقطت نظام صالح لأنه كان عليه أن يواجهها أمام العدسات وعلى مائدة الشهود. لكن هذه البنية المحسوسة المتجلّية، الثورة، ليس بمقدورها أن تستمر في إدارة المواجهة مع الأرواح الخبيثة في مخابئها.
شيء من هذا يجري الآن في تعِز، المثال الأكثر تجسيداً لقصة الثورة. في هذه المدينة فبْرَك المحافظ تقريراً طبيّاً يتحدث عن حالته الحرجة التي تستدعي نقله إلى السعودية. لقد اقتتح بوابة السعودية، مثل حوذي لاهوتي، وغادرها إلى ألمانيا قبل أن يدخلها أكثر من مائة شخص مسلّح من الصف الأول للنظام يتقدّمهم الجنرال في متاهته الأبدية.
بقيت تعِز لوحدها في مواجهة الحرس الجمهوري والأمن المركزي والأمن القومي. وهكذا تحوّلت المدينة إلى 'يومبوس' ضخم، جبل أعراف، ما بين الثورة والسلام. في تعز يعثر الثوّار على مراسلات رئيس المجلس المحلّي إلى الجيش: نطالبكم بسرعة السيطرة على المدينة ونحمّلكم المسؤولية. وفي المدينة تنتقل البنادق في الأزقة، بأيدي شباب متعلّم، بعد أن غادرتها قبل أكثر من نصف قرن. تجلّ شديد الوضوح لسقوط النظام وتحوّله إلى عصابة واضطرار السلالة الجديدة من أبناء اليمن للتعامل معه وفقاً لشروطه هو. قبل السقوط، كان النظام مجرّد طابور أنيق مليئة بالقتلة، بتعبير جان بول سارتر. أو حشد من القتلة ذوي الأوسمة، بتعبير ألبير كامو. لكنه سقط الآن عبر تخلّيه عن أناقته الكلاسيكية: لا داعي للتنكر بعد الآن، خاطب نفسه. خرج إلى العلن.
تنتقل الصورة على هذه الشاكلة من مدينة إلى أخرى لتصنع المشهد الأخير لقصة الثورة اليمنية: ملايين حائرة في الميادين في مواجهة عصابات النظام التي تمنع عنها كل سبل الحياة المسؤولة. وبالنسبة للذراع الناعمة للثورة، تكتل اللقاء المشترك، فهي الأخرى قد دخلت في سرداب 'السفارة في العمارة، والسفير في الأسنسير'. تطالب المعارضة بكشف الحقيقة حول مرض صالح، لكنها أيضاً تخفي حقيقة ما يحدث في مجاري الحوار حول انتقال السلطة. تثق بإدارة السعودية للأزمة، لكنها تنتقد الدور الخطِر لليد السعودية العبثية عبر تصريحات صحافية تشترط عدم الكشف عن مصدر التصريح. وفي موازنات شديدة الحساسية تجد المعارضة إن إجمالي عدد القتلى في 'حرب الحصبة' التي اشتعلت بين النظام وجماعة الشيخ الأحمر ليس أكثر من ضحايا الحرمان من الكهرباء بمن فيهم موتى العنايات الفائقة والغسيل الكلوي. وهي معادلات ضيّقة ومخيفة شبيهة بحسابات جماعة النظام في صنعاء: لقد وصل الحال لدرجة 'إحراق وجه الرئيس' في بيت الله. أي أن جماعة النظام في صنعاء تتغطى الآن بسردية أخلاقية، وبكائية فارعة الطول، بينما هي تحاول أن تُدفّع الجماهير ثمن الثورة الباهظ. من بمقدوره أن يستمر في دفع هكذا تكاليف من معيشته لمصلحة غدٍ غير ذي ملامِح؟ هكذا تفكّر العصابة بإصرار يثير الرعب.
سقط النظام تماماً، لكنه لم يرحل. عملياً أصبح، حتى عبر عصاباته، خارج تعز، عدن، عمران، مأرب، شبوة، البيضاء، صعدة، الجوف، إب .. إلخ. فقد نصف الجيش، ونصف البرلمان، وأدخل طاقمه السياسي كاملاً إلى غرف العمليات في دولة بعيدة بعد أن عرّضهم لعملية اغتيال شبيهة بتلك التي كان ينفذها صالح ضد خصومه. سقط النظام، وشل الحياة العامة، لكنه لم يفِر. لم يعُد بمقدوره أن يحكم بأي طريقة، وتحت أي مسمّى وتحت أي مظلة من التسويات، لكنه يريد أن يستمر على طريقة أبطال فيلم 'عصابات نيويورك'. اتّسعت الهوّة، وتأخر الزمن على التسويات السياسية التي كان يمكن أن تحفظ للنظام قامته وقوامه وكارفتته. أما محاولات البقاء، التي يجري التنويع عليها، فهي ليست أكثر من صور 'أبيض وأسود' تشكل في مجموعها المشهد الكلي الأخير للثورة: من إسقاط النظام في المؤسسات إلى مواجهة العصابة في الأزقّة. كيف ستُسقط الثورة، التي أسقطت النظام، كل هذه الفوضى وتلقي القبض على العصابة؟ في تصوري فإن هذا السؤال هو التكليف الثاني لثورة اليمن الحديثة، قبل أن يرفع الثوّار أيديهم ويطالبوا أفراد بتمكينهم من شربة ماء.
* نقلا عن القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق