وحدة الوعي
نقلا عن المركز العربي لأبحاث والدراسات السياسية
د. هشام القروي 2011/06/08
ليس هناك عاقلٌ يستغرب انتقال اﻻضطرابات إلى بلدان أخرى بعد نجاح الثورة في تونس ومصر في إسقاط رأس الدولة وبداية تغييرات أساسية تمسّ الدستور والقوانين المنظّمة للحياة السياسية. إنّ دوﻻ وحّدها القمع طويـﻻ تشهد اﻵن بروز وحدة من نوع جديد قد يمكن تسميتها ''وحدة الغضب الشعبي‘‘ ، المستندة إلى ''وحدة الوعي‘‘.
|
ومن الواضح تمامًا أنّ النظام السوري ومثيله الليبي وصلا إلى آخر الشّوط، لأنه حين تنعدم لديك كلّ الخيارات السياسية، فتتفرّغ للقتل والقتل وحسب، فمعنى ذلك أنك سياسيًّا انتهيت.
ومن الواضح كذلك أنّ الثّورة المدنيّة الديمقراطيّة تعيد تشكيل الخريطة العربيّة، بما يثير تساؤلاتٍ في إسرائيل والولايات المتّحدة عن أبعادها الاستراتيجية. ومن المتوقّع بالتالي أن تمارس هذه الثورة أبعد التأثير حتى في تلك الأنظمة التي لم تطلها حقًّا، والتي تصاممتْ طوال العقود الماضية عن مطالبَ تتعلّق بتوفير حقوق أساسيّة ، فضلاً عن نصائح حلفائها الغربيّين. ولعلّ انعكاساتها ستكون إيجابيّة إذا منح الإصلاحيّون صلاحيّات فعليّة بغاية الاستجابة إلى الديناميكية الاجتماعية والسياسية في بلدانهم، قبل أنْ يفوت الأوان. إذ أنه ما من شكّ أنّ التغيير هو قدر جميع المجتمعات، وأنّ السابق إليه يضمن حقّه ومشروعيّته، إذا كان مُخْلصًا في عزيمته الإصلاحيّة.
ولعلّه من المناسب التذكير أنه منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بدأ الهيكل الاقتصادي والسّياسي للعالم العربي يهتزّ. فإذا بالديمغرافية المتفجّرة وطفرة النّفط وظهور جيل جديد توفّرت له حظوظٌ في التعليم لم تتوفّر لسابقيه، تغمر بمطلبيّة جديدة ما بني في أوّل عهد اﻻستقـﻻل. وبرز في ذلك الحين تيّارٌ قويّ سمّي تسميات مختلفة، مثل: التيار اﻹسـﻻمي، والصّحوة اﻹسـﻻميّة، والحركة اﻷصوليّة، والحركة التمامية، إلى غير ذلك. ولئن تغيّرت التّسميات حسب البلدان، فقد حمل هذا التيّار مضمونًا متشابهًا بشكل عام، يصرّ على فشل ''الحلول المستوردة‘‘ - والمقصود بذلك الرأسمالية والشّيوعية واﻻشتراكيّة - في معالجة مشاكل المجتمعات اﻹسـﻻميّة، ومن ثمّ، رفض إعطاء السلطة ''للخبراء‘‘ (خاصّة إذا كانت وراءهم مؤسّساتٌ دولية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي)،ورفض اﻻعتراف بشرعيّة الأنظمة القائمة، في حين قدم ''اﻹسـﻻم‘‘ كحـلّ بديل. وقد جذب هذا التيّار إليه عددًا من الشّباب ومنَحهم وسائل التنظيم والنّضال ضدّ الحكم اﻷوتقراطي. ولكن ما لبث أن وجد هذا التيّار نفسه، مثله في ذلك مثل الحركات العلمانيّة المعارضة، خارج الصورة، في جميع بلدان شمال أفريقيا، وكذلك في المشرق العربي. وقد سلّط عليه القمع كما سلّط على العلمانيّين. والملاحظ أنه لم يحرّك الثورة في أيّ مكان، مثلما كان البعض يتوهّمون، ولم ينجح إلاّ في اللّحاق بها مع جملة الملتحقين عندما خرجت الجماهير في شوارع تونس ومصر.
وأفترض أنّ العديد من الشبّان العرب لم يكونوا ليلتحقوا بالتيّار اﻷصولي و الإخواني في السّبعينيّات والثمانينيّات إلاّ لغياب الهياكل السياسيّة والبدائل الممكنة التي تؤطّر ديناميكية المجتمع و تُقنّنها بشكل منظّم وتوجّه الطاقات نحو المعارضة البنّاءة . وﻻ أقصد بذلك فقط اﻷحزاب السياسيّة. فبعض حركات المعارضة كانت موجودة ومعترفًا بها قانونيًّا في تونس ومصر قبل ثورتيْ يناير/كانون الثاني. وعلى الرغم من ذلك انفجر الغضب ليزيح الحكّام. لماذا؟
ﻷنه ﻻ يكفي أن تعترف الدّولة بأحزاب المعارضة والنّقابات العمّالية وتمنح التأشيرات للصّحف والقنوات التلفزيونية الخاصّة. بل ينبغي إعطاء مضمون فعلي لهذا العمل من خـﻻل إجراءات قانونيّة تضْمن حريّة الاختيار للشّعب أي ما يمكّنه من ممارسة سيادة حقيقيّة، من ذلك : اختيار ممثّليه في البرلمان باﻻقتراع العام، ضمان نزاهة اﻻنتخابات ووجود رقابة شعبيّة عليها في كلّ مكان، ضمان حريّة الصّحافة دون قيد أو شرط في حدود ما تسمح به أخلاقيّات المهنة، ضمان حريّة التعبير والتجمّع والتّظاهر ، إخضاع أجهزة اﻷمن وكامل الجهاز التّنفيذي للدولة لمحاسبة السّلطتين التشريعيّة و القضائيّة وتمكين القضاء من ممارسة عمله بوصفه سلطة مستقلّة... الخ.
لقد اندلعت الثورة المدنيّة الديمقراطية بالضّبط من أجل إحداث هذه اﻹجراءات العملية وغيرها ممّا يفترض أن تضمنه الدّساتير. وﻷنّ هذه اﻹجراءات الضرورية ﻻ تزال غائبة في الشّرق اﻷوسط، من المغرب الأقصى إلى أفغانستان، فإنّ توقّع المزيد من الهزّات والمطالبات بالتغيير مرجّحٌ تمامًا. و السبب هو انهيار حائط الخوف، من جهة. ومن جهة ثانية، عدم إدراك الحكومات أنه إذا كان هدف القمع هو الترهيب وإقناع الخصم (الشّعب في هذه الحالة) بأنّ ميزان القوى تتحكّم فيه الدولة، فإنّ للقمع حدودًا إذا تجاوزتها السّلطة إلى المجازر، أفلت من يدها زمام السّيطرة على الوضع، وأسرعت النّهاية إليها.
|
وﻻ ننسى أنّ العديد من هؤﻻء الشّباب من خرّيجي الجامعات المتخصّصين في اﻻتّصاﻻت والمعلوماتية، بإمكانهم أن يجدوا دائمًا طريقةً للتغلّب على الرقابة. بل إنّ وسائل مكافحة الرّقابة على الانترنت أصبحت اليوم مُتاحةً لجميع الناس وليس فقط للمتخصّصين. فبعض المنظّمات الدولية (مثل غلوبال انترنت فريدوم كونسورسيوم) تخصّصت في هذه المسألة، وهي تنشر باستمرار وثائق تهدف إلى تدريب مستعملي اﻻنترنت على الإفلات من الرّقابة.
ويتبيّن ممّا سبق أنّ عولمة اﻻتّصاﻻت تجعل من المستحيل على أيّ نظام المحافظة على نفس اﻷطر القانونية والسّياسية فيما المجتمع يتغير كمًّا وكيفًا. فمن الحقائق التي يدركها المواطنون في أيّ مكان من عالمنا اليوم وجود هيئات ومنظّمات ذات سلطات أخـلاقيّة ودور توعوي ونفوذ تأطيري ّ وتعبوي يتجاوز سلطة أيّ مستبدّ. وبعبارة أخرى، يكفي أن تعمّ الحركة اﻻحتجاجيّة بلدًا ما حتى تنشأ خـﻻيا مساندةٍ ودعْمٍ من داخل المجتمع ومن خارجه، وتتجاوب مع تلك الحركة العديد من المنظّمات، ويصبح الضّغط على الحكومة المعنيّة عالميًّا وليس محليًّا فقط، بسبب عولمة اﻻتّصاﻻت، بل وبسبب عولمة الوعي السّياسي.
فمن بإمكانه أن ينكر اليوم أنه مهْما كانت جنسيّة الإنسان، وجنسه، ودينه، ومذهبه، وعرقه، فهو في كلّ مكان يتطلّع إلى نفس اﻷهداف السّياسية؟ و منها: أن تضمن الدّولة الحريّات اﻷساسيّة للفرد وحقّه في الحياة، والتنقّل، والتفكير والتعبير دون قيْدٍ أو شرط في نطاق قوانين سنّها ممثّلو الشّعب المفوّضون من خـﻻل انتخاباتٍ حرّة نزيهة.
فأن تكون عربيًّا أو صينيًّا ، أميركيًّا أو روسيًّا، مسلمًا أو بوذيًّا، أبيض البشرة أو أسودها، رجـلاً أو امرأة... فهذا لن يغيّر شيئًا من واقع أنّك تشارك كلّ الناس في كلّ المجتمعات الوعي بأنّ هذه الحقوق والحرّيات اﻷساسيّة هي اليوم من مقتضيات الحياة اﻻجتماعيّة العاديّة ، وأنّ غيابها أو تغييبها ليس له أيّ مبرّر إطـﻻقًا.
إنّ ما ذكرته آنفًا عن "وحدة الغضب" نابع عن هذا الوعي المشترك بين اﻷفراد والجماعات من مختلف الطّبقات والشّرائح بأنّ لديهم مصلحة مؤكّدة في المطالبة بالتّغيير عندما يسلبهم حكّامهم تلك الحقوق.
وليس باﻹمكان أيضًا أن يستمرّ هؤﻻء الحكّام في نفس السلوك، أي التّعامي والتّصامم عن التغييرات التي مسّت مجتمعاتهم نتيجة التّحديث والعولمة، والتّغاضي عن مطالب مواطنيهم، وقمعهم إذا خرجوا إلى الشّوارع وإطـلاق أيدي قوّات اﻷمن لترويعهم وتقتيلهم. فحتّى إذا استطاعوا شدّ عجلة التاريخ إلى الوراء بضع الوقت، فإنّ ذلك لن يستمرّ طويـلاً. فما تعلّمناه في بضعة أيّام أطاحت بزين العابدين بن علي وحسني مبارك أنّ التاريخ يتسارع ليُسقط اﻷنظمة اﻻستبداديّة مهْما كانت قدرتها على المقاومة قويّة. ونحن نعلم جميعا أنّ رئيسيْ تونس ومصر السّابقيْن لم يعْدما أدوات القوّة التي دعمت حكمهما من الداخل والخارج. والخطأ الشّائع لهذا النوع من اﻷنظمة هو اﻻعتقاد أنّ قدرة الدّولة على الترهيب تجعلها في مأمنٍ من كلّ الهزّات. ولكن هذا الكلام كان يمكن أن يصدّق في عصرٍ ما قبل اﻻنترنت والفضائيّات التي تنقل الخبر في الوقت الذي يقع فيه الحدث ممّا ينتج تفاعـلات شعبيّة تتجاوز ما يمكن ﻷجهزة اﻷمن والمخابرات التنبّؤُ به أو التحكّمُ فيه.
إنّ اﻷمن الحقيقي هو أن تتحصّن الدولة من الداخل بمشاركة شعبها بكلّ قوّاته الحيّة.
|
وليس مهمًّا أن يكون النّظام جمهوريًّا أو ملكيًّا. فإنجلترا وإسبانيا والسّويد وهولندا والدنمارك وغيرها أنظمة ملكيّة، تخرج فيها المظاهرات أحيانًا، وتنتقد فيها المعارضة الحكومة وتسقطها وﻻ يشلّ ذلك أجهزة الدّولة وﻻ يُلحق بمصالحها ضررًا، وﻻ تزال هذه اﻷمم متقدّمةً وﻻ تزال ملكيّاتها محترمة ومحبوبة من الشّعب ﻷنها رمز لسيادته. وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا والوﻻيات المتّحدة أنظمة جمهورية، ﻻ يورث فيها الحكم وﻻ يتفرّد فيها حزب واحد بالحكم ثلاثين سنة وﻻ يعتبر فيها الرئيس وبطانته ووزراؤه فوق المحاسبة وفوق القضاء، وحين تخرج المظاهرات فرجالُ اﻷمن ﻻ يطلقون عليها الرّصاص وﻻ يعتقلون المتظاهرين، وحريّة الصحافة فيها ليست كضوء الشّمس يغيب ويحضر، والحكومات تسقط ورؤساؤها وأعضاؤها يتغيّرون، وﻻ يسبّب ذلك شلـلاً للدولة وﻻ يلحق الضّرر بمصالحها.
فالدّيمقراطية سيّئة فقط للمستبدّين وبطانتهم. أمّا للعقلاء، فهي الضّامن لسيادة الدولة التي هي سيادة الشّعب، و للمساواة أمام القانون. أي أنها في النهاية تمثّل ما يضمن حقوق وواجبات الحاكم والمحكوم معًا. وحين تسيطر فكرة الحريّة على الناس، فمن الصّعب إخراجها من عقولهم. وسيواصل حرس المستبدّين إطلاق النار على المتظاهرين في شوارع سوريا وليبيا وسواهما، وقد يقتلون منهم أعدادًا أخرى، ولكنهم لن يقتلوا فكرة الحريّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق